فصل: من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة في وقوع فعل {تُلْقُوا} في سياق النهي:

وقوع فعل {تُلْقُوا} في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيًا عنه محرمًا ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدمًا على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك. فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين. اهـ.

.لطيفة في الإحسان إلى كل شيء:

قال فضيل بن عياض: من كانت تحت يده دجاجة فلم يحسن إليها لم يكن من المحسنين. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
بَابُ فَرْضِ الْجِهَادِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَقَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ «عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزَّةٍ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّاءَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ» فَلَمَّا حَوَّلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَكُفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قَالَ: نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ: {صَاغِرُونَ}.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَوَّلِ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، فَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الْآيَةُ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي إبَاحَةِ قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ عَامَّةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ إلَى أَنْ أُمِرَ بِقِتَالِ الْجَمِيعِ}، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ بِقِتَالِ الشَّمَامِسَةِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ الْقِتَالَ وَأَنَّ الرُّهْبَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ بِأَنْ لَا يُقَاتَلُوا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَكَانَتْ الْآيَةُ عَلَى تَأْوِيلِهِ ثَابِتَةَ الْحُكْمِ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ، وَعَلَى قَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ كَفَّ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ بِالْقِتَالِ أَوْ لَا يَتَدَيَّنُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَنَّهُ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصِبْ لَكَ الْحَرْبَ مِنْهُمْ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فِي الْأَغْلَبِ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ شَائِعَةٍ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِع رَوَاهُ دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ أُمِرَ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ وَالْكَفِّ عَمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} نَاسِخٌ لِمَنْ يَلِي، وَحُكْمُ الْآيَةِ كَانَ بَاقِيًا فِيمَنْ لَا يَلِيَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيَنَا دُونَ مَنْ لَا يَلِيَنَا، إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنْ التَّخْصِيصِ بِحَظْرِهِ الْقِتَالَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقَاتِلُونَا فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فَرْضَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ، لَا يُقَاتَلُ فِي الْحَرَمِ إلَّا مَنْ قَاتَلَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ نَبْتَدِئَ فِيهَا بِالْقِتَالِ لِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ}، ثُمَّ نَسَخَ بِقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَالْحَظْرُ بَاقٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أُظْفِرْنَا بِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي قِتَالِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَاتَلَنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ مَحْظُورٌ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ قَتْلِ أَهْلِ الصَّوَامِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الْأَمْرَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَنَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ دُونَ مَنْ كَفَّ عَنَّا مِنْهُمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} نَهْيًا عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} لِإِيجَابِهِ قَتْلَ مَنْ حُظِرَ قَتْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} إذْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَوْلُهُ: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ مَكَّةَ إنْ أَمْكَنَكُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا آذَوْا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانُوا مُخْرِجِينَ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فَرْضِهِ الْقِتَالَ بِإِخْرَاجِهِمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} عَامًّا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا فِيمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إلَّا لِمَنْ قَاتَلَهُمْ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ حِينَئِذٍ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُفي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فِيمَنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ هاهنا الْكُفْرُ، وَقِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعْذِيبِ وَيُكْرِهُونَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ عَيَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ قَتَلَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَكَانَ مُشْرِكًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَالُوا: قَدْ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} يَعْنِي كُفْرَهُمْ وَتَعْذِيبَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنْ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ كُلَّهُمْ، وَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ حَظْرَ الْقَتْلِ بِمَكَّةَ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ فِيهَا، فَيُحْتَجُّ بِهَا فِي حَظْرِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ الْحَرْبِيِّ إذَا لَجَأَ إلَيْهَا وَلَمْ يُقَاتِلْ، وَيُحْتَجُّ أَيْضًا بِعُمُومِهَا فِيمَنْ قَتَلَ وَلَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فِي أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ قَتَلَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ فِي حَظْرِ قَتْلِ الْجَمِيعِ، فَلَزِمَ بِمَضْمُونِ الْآيَةِ أَنْ لَا نَقْتُلَ مَنْ وَجَدْنَا فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ قَاتِلًا أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، فَحِينَئِذٍ يُقْتَلُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، قِيلَ لَهُ: إذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ، لاسيما مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي نَسْخِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، نَظِيرُهُ فِي حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ جَانِيًا، قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَمْنًا مِنْ خَوْفِ الْقَتْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادُ: مَنْ دَخَلَهُ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ أَنَّهُ يَأْمَنُ بِدُخُولِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} كُلّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ اللَّاجِئَ إلَى الْحَرَمِ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقَتْلِ يَأْمَنُ بِهِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ بِمَصِيرِهِ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} إذَا كَانَ نَازِلًا مَعَ أَوَّلِ الْخِطَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ مَذْكُورًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَسَقُ التِّلَاوَةِ وَنِظَامُ التَّنْزِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْآيَتَيْنِ وَتَرَاخِي نُزُولِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى إلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ.
وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا دَعْوَى نَقْلٍ صَحِيحٍ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، تَأْوِيلًا مِنْهُ وَرَأْيًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لَا مَحَالَةَ نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى النَّسْخِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ حَظْرُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ إلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: «وَإِنَّمَا أُحِلَّ لِي الْقِتَالُ بِهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ»، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَئِذٍ حِينَ قَتَلَ رَجْلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ لِمَنْ لَمْ يَجْنِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ الذَّمِّ لِلْقَاتِلِ فِي الْحَرَمِ، وَالثَّانِي: قَدْ ذَكَرَ مَعَهُ قَتْلَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْقَتْلُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ قَتْلُ مَنْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلُ فَلَجَأَ، وَأَنَّ ذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْحَرَمَ يَحْظُرُ قَتْلَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْآيُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا فِي حَظْرِ قَتْلِ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فِي أَنَّ دَلَالَتَهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى حَظْرِ الْقَتْلِ فَحَسْبُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَقْصُورٌ عَلَى حُكْمِ الْقَتْلِ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَقَوْلُهُ: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} ظَاهِرُهُ الْأَمْنُ مِنْ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ مَا سِوَاهُ فِيهِ بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ دَخَلَهُ} اسْمٌ لِلْإِنْسَانِ، وَقَوْلُهُ: {كَانَ آمِنًا} رَاجِعٌ إلَيْهِ، فَاَلَّذِي اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَمَانَهُ هُوَ الْإِنْسَانُ لَا أَعْضَاؤُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِلنَّفْسِ فَمَا دُونَهَا، فَإِنَّمَا خَصَّصْنَا مَا دُونَهَا بِدَلَالَةٍ وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ فِي النَّفْسِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَأَنَّ دُخُولَهُ الْحَرَمِ لَا يَعْصِمُهُ مِنْ الْحَبْسِ، كَذَلِكَ كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ نَفْسًا مِنْ الْحُقُوقِ فَإِنَّ الْحَرَمَ لَا يَعْصِمُهُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَعْنِي فَإِنْ انْتَهُوا عَنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ قوله: {فَإِنْ انْتَهَوْا} شَرْطٌ يَقْتَضِي جَوَابًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَهُ تَوْبَةٌ؛ إذْ كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنْ الْقَتْلِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُ وَيَغْفِرُ لَهُ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} يُوجِبُ فَرْضَ قِتَالَ الْكُفَّارِ حَتَّى يَتْرُكُوا الْكُفْرَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْفِتْنَةُ هاهنا الشِّرْكُ.
وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ الْكُفْرُ فِتْنَةً لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ كَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الْفِتْنَةُ.
وَقِيلَ: إنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الِاخْتِبَارُ، وَالْكُفْرُ عِنْدَ الِاخْتِبَارِ إظْهَارُ الْفَسَادِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَهُوَ الِانْقِيَادُ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْقِيَادُ، كَقَوْلِ الْأَعْشَى: هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إذْ كَرَّ هُوَ الدِّينُ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ ثُمَّ دَانَتْ بَعْدَ الرَّبَابِ وَكَانَتْ كَعَذَابِ عُقُوبَةِ الْأَقْوَالِ وَالْآخَرُ: الْعَادَةُ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ** أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدِينِي

وَالدِّينُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الِانْقِيَادُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَل وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ وَالْعَادَةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ جَرَى بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وَذَلِكَ صِفَةُ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَلَمْ يَدْخُلْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، لِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يَعْنِي كُفْرًا {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وَدِينُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، لِقَوْلِهِ: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} الْمَعْنَى: فَلَا قَتْلَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: الْقَتْلُ الْمَبْدُوءُ بِذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوهُمْ} وَسَمَّى الْقَتْلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِكُفْرِهِمْ عُدْوَانًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً وَلَا سَيِّئَةً.
قَوْله تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَهَيْتَ عَنْ قِتَالِنَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُغَيِّرُوهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَيُقَاتِلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} يَعْنِي إنْ اسْتَحَلُّوا مِنْكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ شَيْئًا فَاسْتَحِلُّوا مِنْهُمْ مِثْلَهُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَدَّتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مُحْرِمًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ مَكَّةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَصَّهُ بِمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ، فَيَكُونُ إخْبَارًا بِمَا أَقَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ بِشَهْرٍ مِثْلِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ مَعَ ذَلِكَ إبَاحَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إذَا قَاتَلَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ لَفْظًا وَاحِدًا لَا يَكُونُ خَبَرًا وَأَمْرًا، وَمَتَى حَصَلَ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ انْتَفَى الْآخَرُ.
إلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا بِمَا عَوَّضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ فَوَاتِ الْعُمْرَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ شَهْرًا مِثْلَهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَكَانَتْ حُرْمَةُ الشَّهْرِ الَّذِي أُبْدِلَ كَحُرْمَةِ الشَّهْرِ الَّذِي فَاتَ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ثُمَّ عَقَّبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَأَفَادَ أَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوهُمْ بِالْقِتَالِ.
وَسَمَّى الْجَزَاءَ اعْتِدَاءً لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْجِنْسِ وَقَدْرُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُعْتَدِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الظَّالِمُ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} عُمُومٌ فِي أَنَّ مِنْ اسْتَهْلَكَ لِغَيْرِهِ مَالًا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ وَذَلِكَ الْمِثْلُ يَنْقَسِمُ إلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُهُ فِي جِنْسِهِ وَذَلِكَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، وَالْآخَرُ: مِثْلُهُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ نِصْفَ قِيمَتِهِ، فَجَعَلَ الْمِثْلَ اللَّازِمَ بِالِاعْتِدَاءِ هُوَ الْقِيمَةَ، فَصَارَ أَصْلًا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي أَنَّ الْمِثْلَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْقِيمَةِ وَيَكُونُ اسْمًا لَهَا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ إذَا كَانَ فِي وِزَانِهِ وَعُرُوضِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْجَزَاءِ، أَنَّ مَنْ اعْتَدَى عَلَى غَيْرِهِ بِقَذْفٍ لَمْ يَكُنِ الْمِثْلُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقْذَفَ بِمِثْلِ قَذْفِهِ بَلْ يَكُونُ الْمِثْلُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هُوَ جَلْدُ ثَمَانِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَتَمَهُ بِمَا دُونَ الْقَذْفِ كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَذَلِكَ مِثْلٌ لِمَا نَالَ مِنْهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْمِثْلِ قَدْ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي وِزَانِهِ وَعُرُوضِهِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ طَرِيقِ الْجَزَاءِ.
وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي أَنَّ مِنْ غَصْبِ سَاجَةٍ فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَنَاوَلَهَا اسْمُ الْمِثْلِ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْغَاصِبُ مُعْتَدِيًا بِأَخْذِهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا لِحَقِّ الْعُمُومِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا نَقَصْنَا بِنَاءَهُ وَأَخَذْنَاهَا بِعَيْنِهَا فَقَدْ اعْتَدَيْنَا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى.
قِيلَ لَهُ: أَخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ فَأَخَذَهَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِيًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ مِنْ مِلْكِهِ مِثْلَ مَا أَزَالَ أَوْ يُزِيلَ يَدَهُ عَنْ مِثْلِ مَا أَزَالَ عَنْهُ يَدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَأَمَّا أَخْذُ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا فِيهِ أَخْذُ الْمِثْلِ.
وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ وَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ؛ إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَنَا بِاسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.
وَيَحْتَجُّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَقَتَلَهُ أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ، لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ: قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ الْإِسْلَامَ قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا فَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ؛ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
فَأَخْبَرَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ: الْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْيَأْسُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا يَجِدَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَتْلَفُ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَقْتَحِمَ الْحَرْبَ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَوْمُ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَبُو أَيُّوبَ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِالسَّبَبِ.
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا وَجَوَازُ اجْتِمَاعِهَا مِنْ غَيْرِ تَضَادٍّ وَلَا تَنَافٍ فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَحْمِلُ عَلَى حَلْبَةِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَهُوَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ فَيُقْتَلُونَ وَيُنْكُونَ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ وَلَا يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُنْكَى غَيْرُهُ فِيهِمْ بِحَمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْجُورًا؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُرْهِبُ الْعَدُوَّ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ النِّكَايَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَاَلَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْمَلُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعَدُوِّ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْلِفَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَائِدَةٍ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَلَفِ نَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الدِّينِ فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وَقَالَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وَقَالَ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّينِ فَبَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ».
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» وَذَمُّ الْجُبْنِ يُوجِبُ مَدْحَ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الدِّينِ وَإِنْ أَيْقَنَ فِيهِ بِالتَّلَفِ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. اهـ.